حافيا في سماء الله
للصغّير البكّاري
محمد الهادي الجزيري
تشهد الساحة الشعرية التونسية أجيالا متعاقبة ومهووسة بفنّ الكتابة الأرقى عند العرب، ألا وهو الشعر..وكلّ جيل يقدّم ما يستطيع من إضافة ..ثمّ يسلّم المشعل للجيل الذي يتلوه ..ولدينا في تونس مواهب كثيرة تجتهد من أجل النهوض بالقصيدة العربية ..وثمّة
شابّ متّهم بالشعر حدّ الذوبان فيه والتصديق عليه..، قضّى سنوات شبابه الأوّل في المشاركة ضمن المسابقات الشعرية التي تزخر بها تونس وقد نال عديد الجوائز منها:
ـ جائزة ثانية في الشعر بمهرجان قليبية عن قصيدته ” حوارية ”
ـ جائزة ثانية سنة 2014 في الملتقى العربي للشعر الحديث ” عامر بوترعة ” بسيدي بوزيد
وهو الآن أستاذ لغة عربية وآداب ..وقد أهداني مجموعته وإيمانا منّي بموهبته وقدرته على الإضافة للمدوّنة الشعرية ..أقدّم لكم هذه الطاقة الإبداعية التي اسمها الصغّير البكّاري وكنيتها عاشق الكلمات الموعود بها …
لنبدأ من حلمنا المغدور..الذي مات قبل أن تتفتّح وروده ..كيف يصف لكم الفجيعة شاب شاهد وردة العرب ونخلة المتوسط وهي تتهاوى تحت عنف الأبناء والأعداء ..، لكم قلنا لنا ولهم كلاما كبيرا ..ولم يفهمه إلاّ الشعر..، لكم صرّح القلب والروح بنفاذ الصبر والأمل..، ففاجأنا جميعا ضياعنا في صحراء لا أوّل لها ولا آخر ..، الكلمة الآن للشعر:
” وقلنا:
سنملأ هذي السّماء
سنابل قمحِ
ونبني بيوتا لنا
من ضياء
وكان الرّحيل
…
فصرنا بصحراء قفر
نفتّش عن بعض ظلّ
وقطرة ماء “
لكلّ منّا ” مريمه ” والباحث في بواطن الشاعر الصغّير البكاري يجد خطواتها وآثارها ..، يعثر على لغائها وهمسها وهمهمتها ..إلى كلّ شيء يمتّ لها بصلة، يجد مثلا الجوع الكامن في الذات الشاعرة ..والظمأ المتشقق في الدواخل، أحيانا يفصح العاشق بما به ويجد المساعدة من قِبل الكلمات والحالة الشعرية ..وأحيانا تختفي مريم داخل اللغة فتستحيل سرابا وخيالا محضا ..، لكنّها حين تجود بها القصيدة ..تبرز لنا في عريها الباذخ ..وتقول لنا كلّ شيء ..بدءا بما كان وما ينمو في بطن الأيام القادمة :
” …و مريم..
ما كان
وما سوف يأتي
ومريم …
صوتي وظلّي
وصوت القصيدة
حين تقال. ”
له أيضا جرحه العربي النازف الذي يخفيه فيظهر فجأة في قصيدة ” عكّا ” ..فيصمت الكلّ من باعة أوطان وخونة مرتزقة ..ويصهل صوت الشاعر وحده دون سواه ..فيعرّي الخيانة والغدر ويفضح النذل مبعثّر أوراق الأمة والعابث بها ..، لكم أحبّ هذا الشعر الفاضح دون تسمية أو توضيح ..، يدين من خذلونا وباعوا درّة الأوطان فلسطين المغدورة من قبل الابن والقريب والبعيد..، وسوف تتغيّر الأيام وتثأر لنفسها ..ولنا أيضا :
” وَحيدًا …
أَرَاني كنجمة صُبْحٍ .
على بحر عكّا.
قرأتُ على موجةٍ :
ولمّا ، من البحر، حَلُّوا
بلَيْلَيْنِ : ماءٍ ونارْ،
عَوَى خلْفَ باب الخيانة
ذِئبٌ
وأَسْلَمَ أَسوارها للغُزَاةْ “.
وفي ختام هذه النزهة السريعة التي أرجو أن تكونوا قد وجدتم فيها متعة وإفادة ..، أترككم مع نبذة صغيرة من تقديم الصغّير البكاري ..الذي افتتح به مجموعة “حافيا في سماء الله”:
حين تندلع في أعماقي حرائق الوحشة والخوف، تداهمني رغبة حمقاء في الكتابة. وأيّ حماقة أن نطفئ نارا بنار! هي لعبة الاِسم في البدء والمنتهى : اسم الشعر والشعور، الموجة الشّريدة الّتي تبتدئ مخاض اللّغة.
مشدودا إلى الحياة، مندفعا إلى أعالي الرّؤى، أتهجّى حروف طفولتي ، أنحت وعيا بالكينونة بالشعر وفي الشّعر وللشّعر.
لاشيء يخامرني إلاّ العشق مرآةً لظلال الرّوح.