دوزان
ليوسف ضمرة
” أنت مجرّد حكواتي يا عزيزي…
ولا تصلح لأيّ شيء آخر “
محمد الهادي الجزيري
يسرّني أن أقدّم لكم قامة من قامات السرد العربي..تربطني صداقة قديمة تعود إلى ثمانينات القرن الماضي..وآخر مرّة شاهدته فيها مؤتمر الأدباء العرب الذي أقيم في الأردن ..فقد حفّ بنا وقدم إلى النزل فور علمه بوصولنا ..إنّه المبدع الكبير يوسف ضمرة ..، وقد مدّني بمجموعته القصصية ” دوزان ” ويشرّفني أن أدعو قرّاء أثير إلى جولة فيها لتذوّق ثمراتها والتمتّع بأبهى الصور التّي اختارها لنا يوسف داخل عزلته ………
حيّرتني القصة الأولى ” دوزان ” التي أهدت المجموعة عنوانها، ظللت متردّدا في ردّة فعلي، هل أبكي ( فيها أسباب عدّة للبكاء ) أم أضحك ( فيها الكثير من خفّة الدم والطرافة )
رجل له القدرة على السرد ..لكنه يخفي جراحات دفينة، فالمتن يحكي عن مواطن يكتشف معاناته من القدرة على التوازن في المشي..ويخرج متنزّها ..ليثرثر مع نفسه ..، فمن المضحكات التي ساقها قوله:
” …أمّا لماذا أختلف عن الآخرين، فلأنني لا أغادر المنزل إلاّ للضرورة، كما تقول الحكومات في الظروف المناخية السيئة..لا علينا ”
ومن المبكيات حديثه عن عزلته الاختيارية ..يقضّي الوقت خلف جهاز الكمبيوتر ليكتب ويلعب الورق والاستماع للموسيقى ..في حين أنّ العالم أرحب من ذلك بكثير..، وعقدة القصة لمّا يصادفه الغريب ويدور بينهما هذا الحوار:
” سألني باستهجان : ألا يعرف الناس كيف يمشون؟
قلت ضاحكا : إنّهم على وشك الطيران ”
وأحزن جملة قالها الراوي هي الأخيرة ..فكم من السائرون في الأرض يودّون الطيران بعيدا عن أوطان صارت ضيقة كحبل المشنقة…….
القصة الثانية بعنوان ” بالوما ” وتعني بالاسبانية يمامة، وتروي حكاية رجل أنيق يتجوّل في ساحة باريس ..يثير اهتمام الراوي فيتبعه ..ويجلسان على مقعد ويعرف أنّ الرجل سافر إلى فنزويلا وتعرّف على فتاة وتزّوجها ثمّ اختفت فجأة ..وسبب تجواله في الساحة ..، يقول الراوي على لسانه:
” سمعت أنّ ساحة باريس تعجّ بفتيات أجنبيات يتعلمن العربية…
حدّقتُ إليه وأنا أسأله ببطء : هل تتوقع أن تكون …
قال مبتسما : ” بالوما ” يا صديقي، ثمّ غنّى بصوت خفيض
( لا أعرف إن كنت أحببتك بما يكفي، لكنّي لم أعتد غيابك، وسوف أنتظرك بحلول ديسمبر )
تأخذ النفس في القصة الثالثة والتي عنوانها ” مرساة “، تأخذ صفة امرأة يستجلبها يوسف ضمرة لمناقشة أمور كثيرة، منها مثلا:
ـ أنّه لو ولد في البحر لما كان بحّارا
ـ أنّه مخترع حكايات ..مثل حكاية البحّار في ستوكهولم ..
ـ أنّه لم يفارق وطنه مطلقا ..وأنّه اشترى لوحة المرساة من سوق الجمعة
ـ أنّه اخترع بفضل السرد مقابلته لزوجة البحّار..بعد أن مات
ـ أنّه اخترع لقاء ابنة البحّار في ساحة باريس ..وأنّه يكذب
خلاصة القول الفصل قالت له المرأة/ النفس :
” أنت مجرّد حكواتي يا عزيزي، لا تصلح لأيّ شيء آخر ”
” موت صاحب هذا الاسم ” رحلة في مفهوم الموت ..توقيته ..موعده ..دلالته .. سؤال في الغياب ولعب شاقّ معه ..إنّه متن الموت الشخصي ..يلقيه يوسف ضمرة على الآخرين ..ويبعث أعزّاء ساكنين القلب من الغياب القسري …
” غياب قصير ” متعة بالغة وسطو عنيف/ حميمي على الوقت ..وسيطرة مطلقة على زمن الانتظار ..، قصة قصيرة فيها تكثيف عال ..تتحدّث عن امرأة تنتظر رجلا ..وثمّة نادل اسمه يوسف ( مرّة أخرى ) ..كأنّ يوسف ضمرة يكتب رواية مقسمة إلى أجزاء كثيرة ..ولكنّها تطفح بالحياة بسلبياتها وايجابياتها ..، وممّا ورد في هذا المتن الشيق:
” حدّق في عينيها ثمّ ضيّق عينيه وقال في هدوء:
تبدين أكبر قليلا، هل أنت متكدرة من شيء ما؟
هزّت رأسها وقالت وهي تبتسم
لا، لا، كلّ ما في الأمر أنّك تأخّرت قليلا
قال ببساطة، صحيح، كان لدى الرجل زبائن كثيرون، فاظطررت للانتظار…”
منتهى الإبداع والروعة حين نختصر الوقت الطويل ( عشر سنوات ) لهكذا تبرير وكلام عادي بين عاشقين ..فيه عتاب طفيف ..وفيه سيطرة على وقت الانتظار………
هذا قليل من كثير ..من متن شيّق فيه شذارات من ثقافة وحنكة ودراية وخبرة ” شيخ ” اختار أن ينهي حياته بين أوراقه وشخوص قصصه ..وها إنّي أتصفح الكتاب وأقرأ ما يعرضه عليّ يوسف ضمرة …..