أثير- ناصر بن صالح بن عبدالله الإسماعيلي
منذ أن استمع إبراهيم الخليل عليه السلام للأمر الإلهي بالنداء للحج؛ تسارعت قلوب العباد قبل الأجساد ملبية تلك الدعوة؛ فتكبدت لأجل ذلك المشاق وقطعت الأمواج والآفاق لتبلغ تلك المشاعر الطاهرة لتطهر نفوسها وتعود كما كان ميلادها نقية من كل شائبة طاهرة من كل خطيئة.
المرسل:
هو الشيخ العلامة القاضي جابر بن علي بن حمود بن جابر المسكري ولد عام 1338هـ الموافق 1920م، في قرية اليحمدي بولاية إبراء وبها نشأ وتلقى تعليمه أولا على يد والدته التي حرصت على تحفيظه القرآن الكريم وتربيته على محاسن الأخلاق كما كان له نصيب من مدارسة جملة من شيوخ ولايته فحرص على أن ينهل من علمهم خاصة علوم الدين واللغة ولما ناهز العشرين عاما توجه لولاية نزوى حيث الإمام محمد بن عبدالله الخليلي -رحمه الله- فلازم هناك جملة من المشايخ كالشيخ منصور بن ناصر الفارسي والشيخ حامد بن ناصر الشكيلي وغيرهم.
لم يطل المقام به كثيرا حيث خرج إلى الجزيرة الخضراء بشرق إفريقيا والتي كانت موئلا لجملة من العمانيين لطلب الرزق وكذلك طلب العلم ومكث الشيخ بها ما يربو عشر سنين بعدها قفل عائدا لوطنه وقد بدأ رحلته للحج منها وفيها سطر رسالته التي سنستعرضها لاحقا.
اشتغل الشيخ في القضاء وتنقل في عدة ولايات وكانت حلقات العلم حاضرة حيث حطت به الرحال لفترة تجاوزت ثلاثين عاما، وللشيخ باع في الشعر فقد جادت قريحته في مناسبات عديدة بأعذب الشعر وأصدقه. انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى سنة ٢٠١٨م بعد حياة حافلة بالعطاء رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
المرسل إليه :
الشيخ سعيد بن سيف بن سليمان الإسماعيلي ولد عام ١٩٣٤م في قرية النصيب بولاية إبراء من شرقية عمان وبها تلقى تعليمه في سني عمره الأولى ثم انتقل لطلب مزيد من العلوم في جوامع ولايته التي يقصدها بعض من أراد إكمال تعليمه في تلك الفترة. لقد نشأ وترعرع في كنف عمه الشيخ علي بن سليمان بن حميد الإسماعيلي أحد أبرز زعماء إبراء وأعلامها وكان لهذه النشأة أثرٌ في حياته حيث كان يلتقي الأئمة والقضاة والأعلام وعموم الناس في مجلس عمه العامر والموكلة إليه مسؤوليات بلده من فلج ومساجد وأوقاف، وما إن بلغ عامه العشرين حيث توسم فيه عمه الشيخ النجابة والقيادة أوكل إليه وكالة الفلج وما كان له أن يرد عمه وهو صاحب الفضل عليه إلا أنه طلب زيارة والده الذي كان حينها في الجزيرة الخضراء من شرق إفريقيا فبها أماكن متعددة وأملاك كثيرة لأسرته منذ فترة امتداد النفوذ العماني على تلك المناطق، وافقه عمه الشيخ على طلبه، فودع أهله، وخرج مسافرا سنة ١٩٥٤م لكن لم يطل به المقام هناك أكثر من عام رغم صحبة والده وجملة من شيوخ العلم والقضاة هناك فعاد إلى وطنه عمان، وما إن وصل حتى استقبله عمه قائلا وكالة الفلج في يدك، حينها تيقن أن عمه يبغي له ما يؤهله لفعل الخير وخدمة البلاد، فشمر ساعده ودعا أهل قريته ليكونوا صفا واحدا لخدمة الفلج خصوصا والقرية عموما من مساجد ومدارس ومجالس وأوقاف، وتبقى المراسلات بينه والجهات المختصة شاهدة لجهوده الكبيرة وسائر أهل بلده فكان لهم ما أرادوا.
لقد كان الشيخ من أبرز من دعا وطالب بعودة العمانيين من المهجر عند بداية النهضة الحديثة وله مخاطبات ومراسلات عديدة للجهات الحكومية وللعمانيين في الخارج فأعان عددا منهم للحصول على المستندات الرسمية للعودة، فعاد الكثير منهم لبناء عمان والإسهام في خدمة وطنهم الأم حيث كان في حاجة لمن يبنيه ويحميه ويعيد أمجاده التليدة.
ولكون صاحب التعريف محبا للتاريخ فقد اعتنى بحفظ جملة من المخطوطات والوثائق والمراسلات على امتداد يتجاوز بعضها الخمسمائة عام، ومن جملة هذه المراسلات ما سنعرضه من خلال موضوعنا هذا، عاش -رحمه الله- حياة مليئة بالكفاح ليس لذاته فحسب بل لا أبالغ أن كفاحه للمصالح العامة كان أكبر من كفاحه لنفسه ولذلك ترك أثرا كبيرا وأعمالا جليلة وما إن غادر حياتنا الفانية سنة ٢٠١٦م إلا وبكاه القريب والبعيد الغني والفقير ممن عرفه وعرف فضائله، ويكفي أنه استمر في خدمة فلج النصيب ومساجدها ما يربو على الستين عاما؛ رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الشيخ المحترم الأجل الأكرم الأخ العزيز والصديق الخالص محبنا سعيد بن سيف بن سليمان بن حميد الإسماعيلي أمده الله بالعون وسلك به المنهج القويم السلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى والدنا الأبر علي بن سليمان بن حميد أبقاه الله والإخوة جميعا لا زلتم جميعا بحال الخير وإني أحمد الله إليكم أخبار هنا مثل ما بلغت لكم مني وقد آن سفر الحج وها أنا اليوم أسجل لك هذه الصحيفة وأنا بدرج الطائرة على عجلة والسفر إن شاء الله سيكون على بركة الله وحسن توفيقه يوم 15 ليلة الخميس الساعة السادسة ليلا إلى نيروبي ثم إلى جدة والنول جميعا سيرا ورجوعا 2450 شلنج ولعلنا نجد أحدا من أهل الوطن في الحرم المشرف وكتبك كلها تصل وأخوك غريق في بحر مروتك الكاملة وأخلاقك الشاملة وإن انقطعت عنك كتبي آونة من الوقت فاحمل الأمر إلى أحسن حال والقلوب شواهد ومع الامتنان لا تحرمنا من البيان فإن كتبك القويمة تجدد في نفوسنا تذكرة حسية هذا ودم في حفظ الله وحسن رعايته تحية محبك المخلص لك العبد لله جابر بن علي بن حمود المسكري بيده يسلم عليك الولد حمود والأخ أحمد بن فتح والوالد سعيد بن حمود وكافة الجماعة سلام على أهلكم كافة والأولاد نعم الإخوة يحيى بن زيد وعلي بن خلفان وحمد بن زيد والمعلم بن سالم يوم 14 القعدة1377هـ
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الشيخ المحترم الأجل الأكرم الأخ العزيز سعيد بن سيف بن سليمان الإسماعيلي حرسه الله السلام عليك ورحمة الله وبركاته وإني أحمد الله إليك لا زلت بحال الخير محبك وزملاءه إلى مكة و الحمد لله بحال الصحة وقد قضينا المناسك نرجو من الله تعالى القبول وموافقة السنة في العمل وأمور الحاج الحمد لله ميسرة الحكومة متضمنة بجميع مصالح الحجاج والأشياء جميعا موجودة في كل مكان حتى في الموقف العظيم (عرفة) تطوف بالثلج والشربات السوداء وغيرها والناس في سلامة بخلاف السنة المتقدمة ونحن أولا قصدنا المدينة ثم وصلنا مكة يوم تسعة وعشرين ذي القعدة وتمتعنا بالمقام بها إلى يوم التروية ثم قصدنا منى للمناسك الواجبة الوقوف بعرفة والمزدلفة والقيام بمنى ثلاثة أيام وسنرجع إن شاء الله إلى جدة يوم أربعة عشر ومنها إلى زنجبار يوم ستة عشر هذا ودائما عرفنا عن أخبار عمان وخص سلامي والدنا العزيز علي بن سليمان والأخوة عبدالله وعامر ابني سيف والأخ يحيى بن زيد وأخيه حمد بن زيد وعلي بن خلفان وسعيد بن ناصر والأولاد جميعا بلا عدد مع كافة أهل البيت والأرحام والمعلم ومن سأل عنا.
تحية محبك الذاكر .. العبد لله جابر بن علي بن حمود المسكري بيده من مكة المكرمة يوم احدى عشر الحج ١٣٧٧هـ
**
يظهر في مقدمة الرسالتين مدى العلاقة التي تجمع بين المرسل والمرسل إليه مقرونة بالدعاء ومدى اللطف في التعبير عن المعاني و العاطفة الصادقة و حسن انتقاء الكلمات التي تنم عن حس أدبي و قدر رفيع من العلم هذا مع الاختصار الشديد الذي راعاه الكاتب في وصف رحلة الحج بما فيها من مراحل و أماكن ومشاهدات، لكن رغم هذا الاختصار ذكر المرسل عن بعض التفاصيل التي تدل على قوة العلاقة والصراحة بينه و بين المرسل إليه كأن يذكر كم كلفت الرحلة وماذا معهم فيها من مشروبات، فهو لا يخاطب غريبا ولا بعيدا برسميات، وهو رغم شغله واشتغاله بالسفر إلا أنه لا ينساهم ويتذكرهم ويرسل لهم في الوقت نفسه (أسجل لك هذه الصحيفة وأنا بدرج الطائرة على عجلة …).وقد استعرض المرسل في رسالته الأولى محطات رحلته للحج وثمن التذكرة ذهابا وإيابا متأملا لقيا الحجاج القادمين من عمان في المشاعر المقدسة ليطفئ شيئا من شوقه لوطنه ولأهله بالسؤال عنهم ومعرفة أخبارهم ورفع السلام لهم ثم يستسمح من المرسل إليه لتأخره عن مراسلته؛ فقد كانت مراسلاته همزة وصل بينه ووطنه الأم راجيا أن يلتمس له العذر وألا يقطع رسائله عنه وقد بعث إليه سلاما من محيطه المقربين كالشيخين القاضيين حمود بن جابر وأحمد بن فتح رحمهما الله ومحملا إياه السلام لأهله في عمان.
أما رسالته الثانية فسجل فيها مشاهداته في العرصات الطاهرة لموسم ذلك الحج وكيف أن مناسك الحج كانت يسيرة وقد سجل كلمة شكر للحكومة على خدمتها لضيوف الرحمن كيف لا والسيارات تمر بالثلج والعصائر لحجاج بيت الله الحرام وكأنما أراد أن ينقل جانبا من جوانب الرفاه التي تمتع بها الحجاج في ذلك العام الذي عدّه أفضل من العام الذي سبقه، وقد تطرق لاستعراض بسيط لخط وصوله لتلك الديار حيث ابتدأ ومن معه بالمدينة المنورة ثم مكة المكرمة حتى انتهاء المناسك والانتقال أخيرا لمدينة جدة حيث رحلة العودة إلى شرق إفريقيا مؤكدا عدم انقطاع رسائله ومبلغا سلامه لأهله وذويه في عمان، وهنا نلاحظ تأكيده على تبليغ السلام لكافة الأشخاص الذين ذكرهم بالاسم أو ضمن الجماعة (سلام على أهلكم كافة والأولاد ..) ، (كافة أهل البيت والأرحام و… ومن سأل عنا ) وهذا يعبر عن مدى الشوق الذي كان يعانيه العمانيون المتوزعون في قارتين، إلا أنه في الوقت نفسه يبين مدى الارتباط الوثيق بالأهل و الوطن فهو يذكرهم فردا فردا ولا ينساهم أبدا و يود أن يصلهم منه شيئا.
المراجع
-الإسماعيلي، عبدالله بن هلال بن زاهر، الشيخ جابر بن علي المسكري حي في القلوب، مركز الطلائع، إبراء،2019. بتصرف.
– الرسالتان من مكتبتي.
