أثير- د.عبدالله باحجاج
يضع التمرين العسكري الضخم المسمى ” بالسيف السريع 3″ الذي سيجري بين قوات السلطان المسلحة ونظيرتها الملكية البريطانية في أكتوبر القادم ، الرهان على قوتنا الصلبة “العسكرية” في مقدمة الأولويات لمواجهة أسوأ الاحتمالات في ضوء مجموعة تحديات جيوسياسية – وجيواستراتيجية قد أصبحت إكراهاتها على بلادنا واضحة وملموسة سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وهذا يعني أننا هنا نعلي من شأن التعدد والتنوع في التحديات وعدم حصريتها على تحدٍ واحد .
لذلك فهذا التمرين العسكري في توقيته وفي نسخته الثالثة المستمرة ، يعد رسالة سياسية عمانية رفيعة المستوى ، وبالغة الدالة ، وعاجلة زمنيًا ، لمن يفهم السياقات والخلفيات ، خاصة وأن وراءه – أي التمرين العسكري ” 3 ” – حرص عماني على إقامته في موعده المقرر مسبقا رغم ما كانت تواجه من إشكالات في زمن اقامته ، وفي ظروفه السياسية .
لذلك تُعدّ اقامته في موعده ، وفي ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة وافاقها المقبلة ، والتعقيدات المالية ، نجاحا عمانيا بامتياز ، يضع الكثير من النقاط السياسية فوق حروف حاول البعض التشويش على نقاطها التاريخية المعروفة ، وقراءاتها بحروف من صناعته بأوهام لن تصبح حقيقة .
سيخرج من هذا التمرين العسكري المشترك ، مجموعة رسائل سياسية تضع حدا للطموحات الجيوسياسية الإقليمية وحتى العالمية ، حيث ستشارك فيه وحدات من أسلحة قوات السلطان المسلحة البرية والجوية والبحرية والأجهزة الأمنية الأخرى ووحدات مماثلة من القوات المسلحة الملكية البريطانية.
وهذا كله ، بهدف تبادل الخبرات القتالية واللوجستية في مجال تنفيذ العمليات العسكرية المشتركة من خلال استخدام أساليب وأسلحة حديثة وآليات تنسيق متطورة تسهم في تعزيز القدرات العسكرية وإدامة الجاهزية والكفاءة العملياتية لقوات السلطان المسلحة على وجه الخصوص .
. وإدامة الجاهزية لقوات السلطان المسلحة الآن بالذات ، يعزز السياق الزمني لاقامة هذا التمرين العسكري بكامل وحدات هذه القوات الباسلة ، فالتحديات بقدر ما هي برية وجوية هي كذلك بحرية ، وتواجه بلادنا من مختلف اتجاهاتها الجغرافية في ظل عالم جديد يتجه نحو باب المندب ، ودول المنطقة المطلة عليه ، والدول المؤثر فيه ، والدول المطلة على الممرات المائية الاستراتيجية في المنطقة ، فالمتأمل في الخارطة الجيواستراتيجية للمنطقة سيدرك فورًا أهمية الموقع الجيوسياسي لبلادنا في ضوء طموحات وأطماع الدول المتجهة نحو القرن الافريقي وشمال افريقيا أو في ضوء أوهام جديدة بإمكانية إعادة النظر في الخارطة الجيوسياسية الإقليمية لصالحها ، عبر اقتطاع أراضٍ من هنا أو هناك لتوسيع تمددها الجغرافي .
من هنا ، يأتي السيف القاطع 3، ليعلن جاهزية قواتنا الصلبة على مواجهة مختلف التحديات وهي في مهدها ، وليقول بفصيح العبارة بأن خيار القوة الصلبة ، والعسكرية على وجه التحديد ، له أولوية قصوى لو تجننت الأطماع أو دفع بها الى الجنون من قبل من يريد شرًا بين الاشقاء أو الأصدقاء.
فالسيف القاطع 3 يشكل بمثابة وسيلة ردع متقدمة ، وجاهزة للدفاع دون تردد عن كل الخطوط العمانية سواء من حيث سيادة بلادنا على أراضيها البرية والجوية والمائية أو مصالحها الاقتصادية ، ولن نستبعد أن يكون وسيلة هجومية استباقية عندما يتأكد لها أن الجنون لن تنفع معه كل وسائل العلاج غير القوة الصلبة .
يتولد لدينا تلكم المفاهيم – كمراقب – من خلال عدة معطيات موضوعية ، ابرزها ازمة مع اشقاء في اكثر من عاصمة مجاورة ، يرتفع حدتها مع إحداها الى عنان السماء ، وحتى الآن تدار من خلال التعبئة الإعلامية غير الرسمية في صمت من قبل الاعلام الرسمي ومن القنوات الدبلوماسية ، لكن مسمى التمرين العسكري له دلالات ومعانٍ كثيرة ، ينبغي أن نأخذ بها بعين الاعتبار .
وفي ضوء ما تقدم ، هل يمكن ان تندلع حرب عسكرية تقليدية بين الاشقاء – لا قدر الله – ؟ نعتذر عن طرح هذا التساؤل المخيف جدا ، لكن التحليل العقلاني لهذا المقال يصلنا الان الى هذه النتيجة ، وبالتالي نطرحه – أي التساؤل- لدواعي التحليل الموضوعي ، ولفك رموز الالتباس التي قد تكون عالقة في اذهان المتوهمين بمقولة ” الظروف المواتية ” التي يروج لها شياطينها .
وهم – أي الشياطين – من الإنس والجن ، وقد انتقلوا منذ عدة سنوات ، وبعضهم مؤخرا الى عواصم خليجية ، ويحرضون أنظمتها السياسية على دول شقيقة ، ويروجون لها بنظرية ” الظروف المواتية ” لتحقيق اجندة جيوسياسية غير مسبوقة ، الا أن التلويح الان بالقوة الصلبة العمانية الرادعة والهجومية ، وبدور الصديق البريطاني التاريخي ، ستشكل عامل تفرد في القوى الصلبة لدول في المنطقة ، وتوازن منطقي ، يعتد به بالنسبة للدول الأخرى ، وستبطل سحر الشياطين .
لكن ، وهذا هو الأهم الآن ، ماذا عن قوتنا الناعمة المتمثلة في المجتمع وثقافته وموروثاته التاريخية والحضارية ، وكذلك قيمه ومبادئه ؟ فهو كذلك بحاجة إلى لمبادرة مماثلة للسيف السريع ، لكن من نوع آخر يتناغم مع قوتنا الناعمة ، بحاجة الى اظهار تعبئة مماثلة للتعبئة العسكرية ، تملك عوامل الردع والتحصين في آن واحد ، وتبعث برسائل عاجلة بالخطوط الحمر لأية اختراقات لقوتنا الناعمة من الجهات الأربع الجغرافية .
لو فتحنا نافذة صغيرة على تجارب بعض الدول ، ومن بينها دول شقيقة مجاورة ، كالإمارات والسعودية مثلا ، سنجد انها قد أنشات مجالس للقوى الناعمة – بهذه التسمية – وتمنحها أدوارًا استراتيجية لا تقل شأنا عن أدوار قوتها الصلبة ، ولها الأولوية ، وما نسمعه أو نقرأه من مزاعم بحقوق تاريخية غير مستحقة لها ، مبعثه هذه المجالس التي يرأسها ويكون في عضويتها مستويات عليا .
وهنا نقترح إقامة مجلس القوة الذكية ، وليس مجلس القوة الناعمة على غرار ما سبق ذكره ، وهناك اختلاف في فكرة المجلسين وجوهرهما ، ففكرة مجلس القوة الناعمة الهدف منه صناعة قوة ناعمة للدولة حتى لو من العدم ، بينما القوة الناعمة في بلادنا هي أصلا موجودة ، وتمارس أدوارها بصورة تلقائية ، لذلك فهي بحاجة إلى مجلس ذكي لها ، يحصنها ويقويها ، ويجعلها بمنأى عن أية اختراقات خارجية ، وبغياب مثل هذا النوع من الإدارات الذكية ، نشهد الآن اختراقات مزعجة ، وتتمدد من جهات غير متوقعة ، وقد ندفع ثمنها مستقبلا .. الموضوع مهم ويحتاج لمقال ثانٍ .